تناسل الرؤى وتداخل الرموز
قراءة في مجموعة قصائد أمي
*ظاهر حبيب الكلابي
للشاعرة فليحة حسن – الصادرة عن دار الينابيع – سوريا سنة2010
لابد للدارس الذي يقوم بدراسة ونقد نصوص فليحة حسن الشعرية أن يستحضر حقيقة اشتغال الشاعرة في أجناس السرد من قصة ورواية ومسرح
نظراً لما يلمسهُ الدارس من تسرب عناصر السرد الى مجمل قصائد المجموعة
من خلال الوصف والتداعي والحوار والحوار الجواني مع الذات ما شكله عامل تداخل الأجناس الذي عملت بتوظيفه الشاعرة بمهارة أظهرت عمق الرؤية لديها في اقتناص الومضة الشاعرة وتوظيف الحكاية ذات المغزى الفلسفي والشعر العمودي والأبوذية الشعبية التي وظفت جميعها لبناء هيكلية شعرية مركبة تتعدد فيها زوايا النظر لتقترب جميعها من مسك خيط الأمل المفقود الذي تبحث عنه الشاعرة –من خلال رمز الأم –مريم-الحبيب- الجنوب الموت عندما يقع، قصائد أمي مجموعة شعرية ناضجة دلالةً تأخذ من الصوفية زهدهم –وأحاسيس الشعراء عشقهم وهي قصائد تحمل مواقف فلسفية ذات رؤية متجددة وعوالم مركبة تتناسل عبر اختصار لغوي شديد وتركيز صوري حاشد وتداخل نفسي رمزي تاريخي لا يترك للترهل مجالاً للتوغل الى النص
(1)
إن الشاعرة ترصد حالات التلاشي وتقطّع أواصر اللقاء ما بينِ الأحبة في عالم الكون والفساد في عالم وحدةٍ وغربة يحمل صوتاً واحدا مهيمناً على مسرح المجموعة (قصائد أمي) ألا وهو صوت الشاعرة الراوية حيناً والمتصوفة
حينا أخر والمتأملة ونلمح كذلك هيمنة صوت الشاعرة على كل الأصوات –
صوت الأم وصوت الأخر وكأنّ السجال الشعري هو سجال مع الذات وهو
حوار جواني انفعالي متأزم عانته الشاعرة واعتصرته وجوداً لغوياً شاعراً بحيث بدت الأصوات الشعرية الأخرى –حيوات برزخية أنأت به الشاعرة بعيداً وقذفتها في مجاهيل البرزخ اللغوي وفضاء المجهول لتتمكن من إملاء رؤاها الشعرية وتمددها الذاتي واغترابها الوجودي في عالم تنتمي ولا تنتمي إليه على السواء
(2)
في مقطوعاتها القصيرة –تكوينات-
أترانا نعود إليكِ
وأنت الدليل
لصبحٍ أفل؟
ص9
وفي مقطعٍ أخر
كيف يقولون لا فرق
......
نحن هبطنا
وأنتِ صعدتِ
فأنا يكون اللقاء
ولا نحنُ/نحنُ
ولا أنتِ/أنتِ
ص10
لا تدعينا نمرّ بتجربة للفراق
قبل أن نرتوي من بحار العناق؟
ص13
الهواء عدويّ ...إذ لا تشاطرينني إياه
ص14
أساء لي القدر برحيلك أحسنتِ إليَّ بذكراكِ
ص15
لا ريب إن تُكرار محنة الفراق بين الشاعرة وبين من تحب أضاف تلاوينٍ من صور اليأس تتجدد مع تلافيف الصور التي عملت الشاعرة على نقلها من المجرد الى المحسوس
(3)
إن الصورة الشعرية في قصائد أمي للشاعرة فليحة حسن كانت على مستوى الرصد الانفعالي الذي يُديم ويَحرص على أقامة علاقة التفاعل المتناغم بين عالم الشاعرة الذاتي والوجداني وبين القضّية التي كانت عند فليحة حسن
وهي الحبل السري الذي يجمع المتناقضات ويؤلف بين المختلفات
حتى جاءت الصورة الشعرية عندها لتؤكد توظيف التشخيص والتجسيم في منجزها الشعري وإبرازه بقوة من خلال إظهار علاقة بصرية حسية بين الصورة والصوت ليتداعى لنا غلبة الإيقاع الداخلي على الإيقاع الخارجي نلمح ذلك في قولها: "لو فتحت أبواب سمائي اليوم
ودنى وهج دعائي من أذن الغيب
لقلتُ رغم الموت المربوط بكاحلها الآن
يا رب(أحفظ أمي)"
ص 15
"لخمسٍ توضأتُ باسمكِ
لليل يُحيط بنبضي
وظلم طوته إلي العيون
دربٌ يتيه إذا ما ابتعدت"
ص16
"فسلام عليها يوم زرعت
ويومَ قطفت
ويومَ تُردُ إليّ ؟ "
ص18
(4)
يظهر من خلال هذه الصورة الشعرية إن هناك علاقة بين الانفعال والصورة الحسية حيث كانت الشاعرة فليحة حسن على مستوى من الهدوء الانفعالي
من خلال منجزها الإبداعي (قصائد أمي) حيث شكلت الصورة الحسية في هذه
المجموعة ودفعت بنا الى القراءة الاسترجاعية من خلال تيار الوعي والتداعي والمسَكْ بأبرز المدركات الحسية التي يتوفر ويزخر بها النص الشعري
لنمسك بتلابيب التأويلات المتعددة من خلال آلية التداعي ....وتعدد القراءات
ما بين الانزياح السكوني والانزياح ألابتكاري وفيه إن الدلالة تتنازل عن سياقاتها السابقة الى دلالة جديدة تتسم بالاكتشافات والنشوة نتلمس قولها:
"أرضعتك عرق القضبان
فلا تفطمك صرخة أقفالها؟ "
ص46
"نظل عراة-كثوب غسيلٍ
نتنفس غربتنا ونجف"
ص30
"ما أطعمتني سماؤكم عنباً
لم تبعني قبلةً لصلاتها
تَعبت يدايّ من هز جذع نخيلكُم"
ص77
"وحتى النخيلٌ استعار من أَضلعي حسرةً"
ص70
(5)
لم تحامل فليحة حسن في جعل ذكرياتها ويومياتها واستدعاء شخوص الواقع كإطار مغلق تتقوقع داخله الشاعرة مُتشرنقة حول ذكريات جامدة أو إرهاصات ذاتية مقيدّة وإنما من خلال تجربة (قصائد أمي) نتلمس اداءاً شعرياً منفلتاً من الواقع محللاً له راصداً لا لامه وقد جعلت الشاعرة من تجربتها ذات بعد إنساني يستجيب لفكرة الحب والحنين للأرض واللام والإنسان والذكريات والجنوب وينبذ صور الحرب والموت والرماد
"حين أقول أحبك فعلاً
هذا يعني
من قصيدة شهقة
إني ما عاد بإمكاني
أن أحيا خالية منك
ص27
وانكِ ما بين القلب وبيني"
"جفِتّ أصوات الكلمات
إذ كان يراها
من قصيدة لقاء ولكن
وهي تلملم أشلاءهُ
من فوق تراب الساتر،
خيوط(البيرية)
ص55
وجلد البسطال"
(6)
إن المزاوجة بين قصيدة النثر والشعر العمودي والشعر الشعبي خاصةً الأبوذية التي اتصف بها جنوب العراق لما لها من تأثير حسي انفعالي يختصر الحالة الانفعالية ويراكمها في حشد صوري بصري دافق بالمشاعر وتعود الدلالات وكثير من الشعراء عمل على إدخال الألفاظ العامية أو قام بتفصيح بعض الشعر الشعبي من أمثال مظفر النواب ويوسف الصائغ في قوله
"صاموت
لا موت
تحكي تموت
ومن قبلهم استخدم السياب العبارات العامية في بعض قصائده (المومس العمياء) وهي علامة جيدة إذا ما جاءت منسجمة مع اللغة ومتفقة مع لهجة الشاعر المحلية وبُعده الاجتماعي وعمقه الجماهيري لكي تكون مكتنزة بواقعيتها، أما فليحة حسن في (قصائد أمي) فمرة تجعل من هذه القصائد الابوذية مثلاً مدخلاً نفسياً مهيمناً لأكتناز الرؤية بعمق المأساة،تقول :
"هي هم دورة فلك وأخر زماني أحب ونحب"
ص41
لتسترسل في إجابة وجدانية بلسان راوية أحداث الرؤية شعرياً من خلال هيمنة
صوت الشاعرة المخبر العليم متأثرة بالسرد تقول :
"وكانت تتهادى في غابات التيه
وحيدة
خالية إلا من قلب
سيدتي أَستميحك حباً؟
فأجابته:
ما آن لك أن تصلب"
*كاتب سوري
العـودة للصفحة الرئيسة - العددالسادس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق